الخروج الكبير: ربع مليون لبناني يبتسمون للكاميرا على أمل المغادرة

الخروج الكبير: ربع مليون لبناني يبتسمون للكاميرا على أمل المغادرة

- ‎فيالمحلية

“درج””: فرح شقير – مدونة لبنانية متخصصة في الاقتصاد
أكثر من ربع مليون جواز سفر لأشخاص لهم أهل وأصدقاء، حبيب وحبيبة، سيرحلون وفي جعبتهم صورة واحدة لمحاولة ابتسامة الأرجح أنها ناجحة وجواز سفر والكثير الكثير من الصور المعطّلة والمشاعر المخدّرة، وقد حبسها صاحبها في صندوق أسود محكم الاغلاق.
بحسب إحصاءات الأمن العام اللبناني، بلغ عدد جوازات السفر الصادرة من مطلع عام 2021 ولغاية نهاية آب/ أغسطس، نحو 260 ألفاً (جريدة الأخبار، 30 آب 2021).

ربع مليون لبناني سمعوا النصيحة الأبوية من رئيس الجمهورية، “اللي مش عاجبه يهاجر” (تشرين الثاني/ نوفمبر، 2019)، فقرروا الخروج أو أُرغموا عليه.
وجهة السفر غير مهمة. لا بل إن التفاصيل الأخرى كلها غير مهمة هذه المرة: من نترك وراءنا وماذا نترك؟ وإلى أين نذهب؟ تفاصيل علينا أن نركنها في صندوق مغلق ريثما نقوى على فتحه. ومن الأفضل عدم فتحه. المهم كيف ننظر إلى عدسة الكاميرا، وأن نخيّط طرف ابتسامة بدقة بالغة ونحن ننظر صوب كاميرا المصوّر، لكي نحافظ على الحد الأدنى من الكرامة، فلا نظهر بهذا الشكل البائس اليائس المكسور المدمّر في الصور الباسبورية التي سنستخدمها لإصدار جواز السفر. سنخيط ابتسامة “على المسطرة” كما يُقال، لا نبالغ فيها، ولكنها كفيلة بأن تقوم بالواجب. ولا بأس بأن نستعين بذكريات تعيد البريق إلى عيوننا، ريثما تتحقق الصورة المبتغاة، أي تلك التي ستخفي ملامحنا الباهتة والتي سترسم ملامحَ ستقنع دول العالم بأننا أفراد نستحق فرصة ما في بلدهم. صور ستقنع دول العالم بأننا طردنا من وطننا لا بسبب خلل فني فينا، ولكن نتيجة حب من طرف واحد وعلاقة مرضية نعجز عن الاستمرار فيها.
رأسي يعجّ بهذه الصور، صور الباسبورات الصادرة هذا العام للبنانيين يحاولون الخروج. أعرف أن خلفية صورة جواز السفر عليها أن تكون بيضاء، وغالباً ما تظهرنا بوجه شاحب ومملّ. ولكن تفاصيل الصور مهمة هذه المرة، صور اللبنانيين. ماذا ارتدوا يوم تصويرهم؟ ألوانهم؟ اكسسواراتهم؟ كيف أخفوا انكساراتهم ووجعهم؟ وهل نجحوا؟ كيف أخفوا مشاعر الذنب تجاه من لا طاقة له على الرحيل وتجاه كبار السنّ في عائلاتهم؟ بماذا فكّروا وهم ينظرون إلى الكاميرا؟ وكيف اختاروا الصورة الرابحة من بين الصور الأربع أو الخمس التي سيلتقطها المصور للانتقاء بينها، وعلى أي أساس سيحددون الصورة المختارة، أي تلك التي ستخلّد والتي ستُطبع منها عشرات النسخ لاستخدامها في طلبات جواز السفر وطلبات الهجرة وطلبات العمل؟
رأسي يعجّ بهذه الصور، الصور الباسبورية لأكثر من ربع مليون لبناني يحاولون إقناع من سيراجع ملفّاتهم بأنهم من خيرة الشباب وأن هذا الطرد التعسفي الذي يطاولهم لا ذنب لهم فيه.
وأنا أراجع هذه الصور وأتلصص من بعيد على أصحابها، تجتاحني موجة حزن موجع، إنما هادئ، حزن لا صوت له، مكتوم. هذا الحزن الذي يستقرّ ما بين الحلق والحنجرة. الصوت الوحيد الذي أسمعه وأنا أراجع هذا الكم الهائل من الصور هو صوت محمود درويش. في الفترة الأخيرة، أصبحت أشعر بأن الجزء الأكبر من شعر درويش والذي كتب فيه عن الرحيل والمهجر والاحتلال والمحتلّ والذاكرة والحياة التي نحبها إذا ما استطعنا إليها سبيلاً، كان كتبه وفي باله بيروت، وفي باله لبنان، وأنه كتب عنا ولنا، وكتب ما لا طاقة لنا على كتابته والبوح به.
أكثر من ربع مليون جواز سفر لأشخاص لهم أهل وأصدقاء، حبيب وحبيبة، سيرحلون وفي جعبتهم صورة واحدة لمحاولة ابتسامة الأرجح أنها ناجحة وجواز سفر والكثير الكثير من الصور المعطّلة والمشاعر المخدّرة، وقد حبسها صاحبها في صندوق أسود محكم الاغلاق.
يطالعني الآن جزء من قصيدة درويش “جواز سفر”:
“كلُّ العصافير التي لاحقتْ
كفى على باب المطار البعيد
كل حقول القمح،
كل السجونِ،
كل القبور البيض
كل الحدودِ،
للمناديل التي لوَحتْ،
كل العيونِ
كانت معي، لكنهم
قد أسقطوها من جواز السفر!”.
كتبت سيلفانا خوري على “فايسبوك”: “الفلة من لبنان هالمرة يتم والبقاء فيه موت”، وأجدني لا أتوقف عن تبديل الكلمات. وعلى رغم لا جدوى هذا التمرين في المنطق، إلا أنني لا أتوقف عن التفكير بما إذا كان البقاء في لبنان يتماً والخروج منه موتاً أو العكس، وهل هناك فرق أصلاً، ما بين اليتم والموت في حالتنا؟ أفكار ساذجة أغرق فيها عندما أفكر في امكانية الخروج، وأحب استخدام كلمة خروج هنا، لأنه على رغم وجود مفردات أكثر دلالة سياسياً واجتماعياً كالتهجير والطرد، إلا أنني لا أقوى على استخدام الأخيرة وأنا أفكر في حتمية الخروج، خروجي. أخاف. أخاف من هذا الثقل النفسي الذي صادقته والذي أصبح جزءاً مني وأصبحت جزءاً منه، فماذا أفعل به عندما تقلع طائرتي بعيداً؟ هل سأستطيع التخلص منه قبل أن تستقر طائرتي في المدينة الجديدة والتي ما زالت مجهولة الاسم والمعالم؟ ثقل نفسي لا يربكني هنا في بيروت، فالتعامل معه سهل، وسط هذا الاعتراف المعلن أحياناً والمكتوم أحياناً أخرى. اعتراف متصالح مع حقيقة أننا جميعاً نكابرعلى البؤس ونتعالى على الانكسار ونبتسم في أكثر اللحظات ألماً، مع إدراكنا العميق أننا لا نعرف ماذا نفعل اذا ما خانتنا ابتسامتنا للحزن، في لحظة تخلٍّ، وقرر هذا الجسد أن يتبنى السياق الطبيعي للأمور، حزن فبكاء. أما القهر، فلا مخرج له في هذا الخروج الكبير، خروجنا جميعاً من معادلة هذا النظام الفاشل.