أضيفت طوابير المياه إلى لائحة الطوابير التي تنبت يومياً والتي بات على اللبنانيين التكيّف معها. صفوف طويلة من الأفراد من مختلف الأعمار يصطفون أمام ينابيع المياه في البلدات والقرى لتعبئة ما أمكن من ليترات تكفي لاستهلاك بضعة أيام.
أيام حكم الأمير بشير الشهابي، اقترح «أخوت شانيه» عليه أن يصطف الناس من قصر بيت الدين إلى نبع الصفا وأن يحفر كلّ منهم خندقاً بطوله لاستجرار المياه إلى دار الإمارة. بعد أكثر من قرنَين، وعوض أن تصل المياه إلى المنازل في تطور طبيعي للأمور، عاد الناس إلى «الاصطفاف» من جديد لاستجرار المياه من الينابيع و«زقّها» إلى المنازل بالسيارات، أو حملاً على الأكتاف في ظل ارتفاع سعر المحروقات، في حال توفرت.
أمام عين مياه في بكفيا، يشرح أحد الشبان كيف يتوزّع أفراد العائلة على الطوابير: «أخي الأكبر يتفرغ لطابور البنزين، أبي للصيدليات، أمي للأفران وأنا للمياه»! مدة الانتظار لا تقلّ عن ساعة وأحياناً ساعتين، «ولا يوجد توقيت مثالي للتعبئة. العجقة تستمر من الصبح حتى المساء، وليلاً يكون الازدحام أكبر لأن الطقس يصبح أكثر برودة».
على العين لوحة تتضمّن إرشادات للبلدية، عُلّقت منذ ما قبل الأزمة، تحدد العدد الأقصى من الغالونات التي يُسمح بتعبئتها. لكن الكل يأتون محمّلين بما يمكن لصندوق السيارة أن يتسع له من «غالونات» للتمون لأطول مدة ممكنة، «فالماء شحيح في العين في هذه الفترة من السنة، والعملية مرهقة وتأخذ وقتاً، لذلك نحاول أن نؤمن حاجتنا لأسبوع على الأقل»، يقول أحد المنتظرين. علماً أن «النطرة»، كما في الطوابير الأخرى، لا تخلو من تلاسن وتدافع و«عيون محمرّة».
ظاهرة طوابير المياه أمام الينابيع برزت منذ حوالى شهرين مع ارتفاع أسعار المياه المعبّأة، ليتخطى سعر صندوق المياه (6 زجاجات سعة الواحدة منها ليتران) الـ 20 ألف ليرة، وهي كمّية لا تكفي لاستهلاك يوم واحد لعائلة من 4 أفراد، إذا ما استُخدمت للشرب فقط. لذلك، تقول إحدى المنتظرات: «بدأنا نستخدم مياه العين للطبخ وتحضير القهوة والشاي. وهذا استهلاك يومي كبير. كنت سابقاً أشتري غالون المياه سعة 6 ليترات بـ 3500 ليرة. اليوم سعر الغالون يتخطى الـ 10 آلاف ليرة». ورغم أن أحداً لا يدرك ما إذا كانت مياه هذه الينابيع صالحة للشرب. إلّا أن الأولوية هي تأمين المياه، «ومن باب الوقاية نلجأ أحياناً إلى غليها أو وضعها لأيام تحت أشعة الشمس، كون هذه الطرق كما يُقال تقضي على الجراثيم».
بحسب الباحث في البيئة المائية، الدكتور كمال سليم، «لا يمكن حصر عدد الينابيع الملوّثة ولا نسبتها. ولا توجد إحصاءات دقيقة أو شاملة تتناول واقع الينابيع كافة في لبنان. كل النسب والأرقام المتداولة لا تخرج عن إطار التقديرات والتكهّنات. لكن المؤكّد أن التلوّث كبير جداً والمشكلة لم تعالَج منذ عقود». وما يفاقم من المشكلة «أنه يمكن أن يكون النبع صالحاً للشرب اليوم وأن يصبح غير صالح للشرب بعد أسبوع بسبب غياب محطات تكرير النفايات السائلة ورمي النفايات في الوديان فتنتهي عصارتها في المياه الجوفية. لذلك يفترض مبدئياً إجراء فحوصات مخبرية أسبوعية لتبيان الواقع الجرثومي للينابيع التي يستخدمها الناس للشرب. لكن الأمر أصبح صعباً للغاية ومكلفاً في ظل غياب المعدات والمواد التي تُستخدم لإجراء الاختبارات».
الدكتور منذر حمزة، رئيس مختبر ميكروبيولوجيا الصحة والبيئة (المعهد العالي للدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا وكلية الصحة العامة – الجامعة اللبنانية) يلفت إلى أن «مشكلة تلوث المياه في لبنان عمرها عقود وتتفاقم من دون أي معالجة. مطلع التسعينيات أجرينا ككلية صحة في الجامعة اللبنانية دراسة على عدد كبير جداً من الينابيع في شمال لبنان وغطينا كافة المستويات من حيث الارتفاع عن سطح البحر، لتبيان مدى تلوثها الجرثومي، أي تلوثها بالمادة البرازية سواء كانت بشرية أو حيوانية. وكانت النسب جداً عالية، حتى لجهة الينابيع التي تقع على مستويات عالية عن سطح البحر. ومنذ ذلك التاريخ، نحن في انحدار متواصل». ولفت إلى دراسة جديدة يجريها طالب دكتوراه بالتعاون بين الجامعة اللبنانية وجامعة ليل الفرنسية عن المياه الجوفية في سهل عكار وبعض المناطق المتوسطة الارتفاع عن سطح البحر، «وقد ظهرت حتى الآن مستويات تلوث مهمة جداً. لكن النتائج المقلقة للغاية هي المرتبطة بالمياه الجوفية في سهل عكار حيث يمكنني التأكيد أن 100% من المياه الجوفية ملوثة جرثومياً. وهذه المياه تُستعمل لري المزروعات ما يشكل خطراً كبيراً على صحة المستهلكين». لذلك «من واجب البلديات ومصالح المياه أن تحلل مياه الينابيع وتُعلم السكان بالنتائج. وأبسط طرق المعالجة تكمن بوضع محطّة للمعالجة عند مصدر المياه».
ومعلوم أن لاستهلاك المياه الملوثة انعكاسات خطيرة على الصحة، خصوصاً في ظل انقطاع الأدوية والكلفة العالية للفحوصات ودخول المستشفيات. ويوضح الدكتور ميشال مهنا، الأخصائي في الجهاز الهضمي والتنظير أن «أبرز الأمراض التي تتسبّب بها المياه المبتذلة بالمجارير أو الصرف الصحي هي السلمونيلا، التيفوئيد، الطفيليات، الديدان، أمراض التهاب الكبد الوبائي، التهاب جرثومة المعدة، التهاب العيون وغيرها». ويلفت إلى أن «أعراض الشرب من المياه الملوثة يمكن أن تظهر خلال 24 ساعة فقط». أما في ما يختص بطرق المعالجة الشعبية كغلي المياه أو وضعها تحت أشعة الشمس، يشدّد مهنا على أن «الغلي أضمن للقضاء على الجراثيم لكنه يؤدي إلى خسارة كافة العناصر المعدنية للمياه. أي أن الناس سيشربون في هذه الحالة الأوكسيجين والهيدروجين فقط وهذا خطأ لا يجب القيام به. 70% إلى 75% من الجراثيم تموت عند درجة الغليان على حرارة 100. أما وضع الماء تحت أشعة الشمس فطريقة غير آمنة 100%. الحل الوحيد والأفضل هو الفلترة أو وضع الكلور في الخزانات».
الاخبار