تواصل قوات الاحتلال بالتعاون مع حلفائها من الغربيين والعرب ممارسة أقصى الضغوط على أبناء غزة لدفعهم إلى الاحتجاج لدى قيادة المقاومة الفلسطينية من أجل القبول بوقف فوري لإطلاق النار وفق الشروط الإسرائيلية. وكل المعطيات حول ما يجري على الأرض من خطوات تثبت نظرية المقاومة بأن العدو لا يعمل لوقف الحرب أو الخروج من غزة، خصوصاً المساعي الجارية برعاية أميركية ومساعدة من بعض الدول العربية، لخلق واقع جديد في القطاع، أساسه ابتزاز أبناء غزة بطعامهم ودوائهم مقابل التخلي عن المقاومة. وهو كلام كان يمكن اعتباره في إطار الاستنتاجات لولا أنه تحوّل إلى عنصر مباشر في الاتصالات الجارية، بما فيها تلك القائمة مع شخصيات فلسطينية من بينها شخصيات من القطاع نفسه.
الموت على الطريق
هذه السردية تؤكدها جهات مستقلة تعمل على الأرض، وتشير إلى وقائع يومية تؤكد أن قوات الاحتلال ليست في وارد تسهيل حياة الناس، وأن هدف تفكيك حماس والمقاومة قائم، وإذا فشلت الحملة العسكرية في تحقيقه، فإن إسرائيل تسعى إلى ذلك من خلال برنامج عمل أمني طويل الأمد، ومن خلال تحريض الناس على المقاومة. وتروي هذه الجهات أن ما يجري الآن على الأرض يعكس هذه الروحية. ويقول أحد المنضوين في أعمال ميدانية تخص المدنيين في تلك المنطقة: «إسرائيل لا تريد أن يشاركها أحد في إدارة القطاع، لقد تم تدمير كل البنى التحتية الخاصة بالأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وتم التواطؤ مع منظمات دولية على إخراج كل كوادرها وعائلاتهم من القطاع، فيما الأبواب موصدة بوجه الجرحى، وانتشار قوات الاحتلال على كل الطرق يتم بطريقة تهدف إلى محاصرة الناس في بقع محددة، فشارع صلاح الدين محظور على أحد استخدامه، وفي مرات نادرة يُسمح لبعض شاحنات المساعدات بعبوره من الجنوب إلى الشمال. وما يحصل فعلياً هو أنه يتم توقيف الشاحنات (لا يزيد عددها على خمس في أحسن الأحوال) لساعات طويلة بحجة التفتيش، ثم يصار إلى إبلاغ الناس في الشمال لانتظار المساعدات، وبعد طول انتظار، يُسمح لشاحنة واحدة بالعبور، وما إن تصل إلى أماكن انتطار الناس حتى يهجم عليها المواطنون الجوعى وتقع الفوضى، وبالتالي، لا توزع المساعدات كما يفترض أن تتم، علماً أنها غير كافية أساساً، ويُطلق العنان لمجموعات من التجار المهربين ومافيات الحرب الذين يسرقون المساعدات، أو يحصلون على بعضها مقابل أموال تُدفع لجنود الاحتلال، ثم يصار إلى بيعها بأسعار خيالية لمن بقي من السكان في مناطق الشمال».
وبحسب المصدر نفسه، فإن الخط الغربي، أي شارع الرشيد، هو المعبر المفضّل لجيش الاحتلال، كونه يمنع أي تحركات للناس في كل المنطقة الشرقية، وهذا يتيح حرية حركة لقوات الاحتلال في كل المنطقة، بينما تتم تغطية الطريق الساحلية من خلال رقابة جوية دائمة، وإقامة نقاط تفتيش، بعضها ثابت في وسط الطريق (إلى الشمال قليلاً من وادي غزة) وبعضها متحرك غير معروف التوقيت والمكان. وفي هذه الطريق، يُمنع الانتقال من الجنوب إلى الشمال، وكل من يحاول العبور يُقتل، أما العابرون من الشمال إلى الجنوب، فعليهم الخضوع لقواعد تحددها قوات الاحتلال، مثل أن تتقدم العائلات مجتمعة إلى مسافة تتجاوز الـ 200 متر عن نقطة التفتيش، وعندها يتم فصل الرجال عن النساء والأطفال. وعلى الرجال التقدم فرداً فرداً خلف بعضهم ضمن مسير واضح، رافعين الأيدي خلف الرأس، وأن لا يحمل أي منهم سوى بطاقة هويته، وعندما يقترب من نقطة التفتيش، يمر من أمام كاميرات مخصصة للمسح والمطابقة مع برامج معلوماتية، فيجري اعتقال بعضهم ويُطلق سراح آخرين، بينما تُجبر النساء والأطفال على ترك أغراضهم بعيداً عن الحاجز والتقدم، ليصار إلى التدقيق في هوياتهم وسؤالهم عما رأوه في الشمال، ثم يُسمح لهم بالتقدم سيراً على الأقدام ليقطعوا مسافة كيلومترات طويلة قبل أن يجدوا من ينتظرهم على الجهة المقابلة.
أكثر من ذلك، فإن المركبات التي يُسمح بمرورها في بعض الأحيان، تكون عائدة إما للأمم المتحدة أو لمنظمات إنسانية دولية أو حتى للهلال الأحمر، ولكن، على هذه الجهات أن تنسق مسبقاً مع ضباط الاحتلال، ويجري تقديم معلومات مفصلة حول هوية السائق (ويُفضل أن لا يكون من أبناء القطاع) وهوية كل من هو موجود في السيارة، وكل ما هو فيها من أغراض شخصية أو معدات أو حتى مساعدات بسيطة. ويتم إخضاع هذه المركبات لتفتيش إضافي عند وصولها إلى نقاط تفتيش خاصة بقوات الاحتلال، مع إجبارها على الانتظار لفترة غير قصيرة، قبل التدقيق في الوجهة وهدف الانتقال إلى الشمال وعما إذا كان هناك جدول لقاءات مع طلب تفاصيل حول الأمكنة والأشخاص.
وبينما ينتظر أبناء الشمال وصول بعض المعونات من الجنوب، تأتيهم المعلومات بأن عليهم توقع المساعدات وهي تسقط عليهم من الجو. ولهذه الطريقة حكايتها عند قوات الاحتلال التي تشترط أن يتم رمي الشحنات من الطائرات على الجهة الغربية من القطاع، وأن يُمنع إلقاء أي مساعدات في المناطق الداخلية. وحتى ما يسقط بالخطأ، تترصده طائرات العدو وتقصفه، وفي مرات كثيرة، يعمد جنود الاحتلال إلى إطلاق النار على أكياس الطحين المرمية على الأرض أو حتى التي يجري تحميلها على طنابر تجرها الحمير. بينما لا يمكن أن تتضمن المساعدات أي أغراض تساعد على الإيواء، إذ يحتاج الناس إلى خيم كبيرة من قماش مخصص لمواجهة المياه والرياح، كما يُمنع تشغيل المرافق الصحية لتستقبل الجرحى وتقديم الدعم الصحي للمرضى وليس للجرحى، ومن يريد تلقّي العلاج، عليه مغادرة الشمال إلى الجنوب.
قتل الشرطة المحلية
وفي الوقت نفسه، لا تتوقف طائرات قوات الاحتلال المُسيّرة عن مسح كل ما يسير على الأرض، ويجري تصوير ما يعتقد أنهم رجال الشرطة المحلية أو الإدارة المدنية، وقصف أي مركز رسمي يتجمعون فيه، ويُمنعون من إدارة أي تنظيم لتلقي المساعدات، فيما تتواصل قوات الاحتلال مع الأهالي وتحذرهم من أن سماحهم لعناصر المقاومة بالتواجد بينهم يعرّضهم للخطر. كما تنشغل قوات الاحتلال شمالاً بتدمير مزيد من الأبنية. ويروي شهود في القطاع كيف أن قوات الاحتلال تشن غارات غير مفهومة على بعض المناطق، خصوصاً الشرقية منها، ليتبين لاحقاً أن العدو يعمل على تدمير كل الأبنية التي لا تزال صالحة للترميم أو حتى للاستخدام في حال عودة سكانها. وفي كل عملية توغل تحصل، بحجة مطاردة المقاومة، تقوم الجرافات الكبيرة بمزيد من عمليات الجرف حتى باتت مناطق بأكملها مدمرة تماماً. ففي بيت حانون مثلاً، يصعب العثور على سكان، فيما دُمر أكثر من 70% من مناطق جباليا، ويُقصف حي الزيتون الذي عاد المقاومون لملاحقة جنود العدو فيه بطريقة وحشية تهدف إلى تدمير كل شيء فيه.
وإذا كان الشمال بنظر العدو منطقة عسكرية كاملة، فإن معاناة الجنوب ليست أقل حدة وشدة. ففي خان يونس، حيث سعى العدو إلى إبعاد كل من بقي هناك، جرى قصف عشوائي لمناطق توجد فيها مراكز صحية أو تابعة للأمم المتحدة ويشغلها نازحون، وفي مرات كثيرة، لجأ العدو إلى القصف مباشرة بين الناس قبل إخراجهم، ثم قصف من أراد اللجوء إلى مناطق قريبة من الأماكن المستهدفة، وصولاً إلى التوغل البري الذي وصل إلى المراكز الصحية. حيث لجأ جنود الاحتلال، إلى إخضاع كل الموجودين هناك لـ«عملية مسح» من خلال كاميرات موصولة بخوادم تحوي «داتا الغزيين»، واعتقال من يُشتبه فيهم ودفع الآخرين إلى الخروج بعيداً. أما الجرحى، فيصار إلى التدقيق في هوياتهم، وفحص نوع الإصابات، والتثبت من أنهم ليسوا من المقاتلين، قبل السماح لجهات أجنبية بنقلهم إلى أماكن أخرى، ويجري أحياناً منع نقل بعضهم. ووصل الأمر بقوات الاحتلال قبل أسبوعين إلى منع نقل جريح مصاب بشلل تام، من دون تقديم شروحات حول خلفية القرار. ويحصل كل ذلك، فيما تقوم قوات أخرى، بتخريب الغرف وأماكن لجوء الناس ومنع أحد من البقاء في تلك المنطقة.
البحر أمامكم
وفي هذا السياق، يتضح أن العدو يركز على فكرة وحيدة وهي أن على أبناء غزة أن يتعاملوا مع واقع جديد، قاعدته أن الحرب طويلة، وأن العملية العسكرية لن تتوقف قريباً، وأن مشروع إعادة بناء قيادة وسلطة جديدة في غزة هو هدف أساسي، وأنه في الانتظار، يريد العدو أن يضع قواعد لنظام الحياة في القطاع، أساسها أنه هو من يقرر حجم ونوع ووتيرة المساعدات التي تدخل إلى القطاع، كذلك بما خص تواجد الناس وحركتهم. وهو يصر على مبدأ أن على الفلسطينيين أولاً، ثم على الوسطاء والذين يقدمون المساعدات، أن يرتضوا بأن العمل لن يكون إلا من خلال البحر، ومن خلال اعتماد المناطق الغربية. وهو يقول لأبناء غزة: ليس لكم سوى البحر، إما أن ترحلوا عبره، أو أن تستقبلوا عبره ما يمكن أن يصل إليكم!
وتروي جهات دبلوماسية أن قيادة العدو تتصرف على أساس أن وجودها في القطاع سيدوم طويلاً، وأن المفاوضات الجارية بشأن الهدنة، لا تعطل العمل الدؤوب على خطط تخص إدارة القطاع. وتشير إلى أن الولايات المتحدة ومعها أوروبا ودولٌ عربية عدة، تتقدمها مصر والإمارات العربية المتحدة والأردن، انخرطت في المشروع نفسه، وأن اول خطوة تمثلت في شروع الجانب المصري (بدعم إماراتي وأردني) في بناء مخيمات جديدة للنازحين من أبناء الشمال خصوصاً، وبقية القطاع، في كل الأماكن المفتوحة القريبة من الشاطئ وعلى امتداد الطريق بين منطقة الشيخ عجلين والمواصي إلى الجنوب الغربي من القطاع.
إلى جانب هذه الخطوة، باشرت قوات الاحتلال بالتعاون مع الجهات نفسها، ومع دول غربية منها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وقبرص، وضع الخطط التنفيذية لجعل المساعدات تأتي من البحر وإقفال معبر رفح مع مصر حتى إشعار آخر، على أن يصار إلى نقل الشاحنات الموجودة هناك إلى معبر كرم أبو سالم، حيث تتولى قوات الاحتلال بنفسها الإشراف على فحصها وتحديد وجهة سيرها وطريقة تحركها.
وتكشف المصادر عن تغيير طرأ على الفريق الذي يدير الملف، إذ تم إدخال تعديل على المشاركة الأميركية، من خلال صدور قرار بنقل المنسق الأميركي ديفيد ساترفيلد من المنطقة، وطُلب إليه متابعة الأمور من مقر إقامته في منزله في ميامي، بينما يصار إلى منع الفريق الإنساني الخاص بالأمم المتحدة، والذي يديره مساعد الأمين العام مارتن غريفيتن من المشاركة في غالبية الاجتماعات، والاكتفاء بالتنسيق الصوري معه، مع الاستمرار في اتهام الأمم المتحدة بالسماح لعناصر المقاومة باستخدام مقراتها وسياراتها لأغراض عسكرية. كما أن منسق جيش الاحتلال للأعمال المدنية في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة الضابط غسان عليان، يجري محادثات منفصلة مع الجهات العربية والدولية التي تسير في مشروع العدو. وهو زار دولة الإمارات العربية أكثر من مرة، كما زار مصر مراراً، وفي آخر جولة له، كان يقود المفاوضات للحصول على تمويل من دولة الإمارات وقطر (وتجري الولايات المتحدة اتصالات مع الكويت في هذا الشأن) لبناء خط الإمداد الإنساني البحري عبر قبرص. وقد توجّه فريق سياسي وأمني إسرائيلي إلى الدوحة من أجل التنسيق حول آلية العمل التي ستكون محل اختبار في الأسبوعين المقبلين. واتُّفق على تكليف شركة خاصة أميركية FOGBOW (قوس الضباب) وهي تضم عناصر سابقين في القوات الخاصة الأميركية ورجال المارينز، وتعمل في حقل إيصال المساعدات إلى سكان المناطق التي تشهد حروباً ونزاعات عسكرية كبيرة. وتخضع للقوانين الأميركية وتعمل تحت إشراف الجهات الأميركية المعنية أمنياً وعسكرياً. وسبق لها أن أبرمت عقود عمل مع جهات عالمية بينها الأمم المتحدة.
وبحسب الاتفاق، فإن إسرائيل ستكلف شركة أمنية تتبع لها بالإشراف على عملية فحص المساعدات المقرر نقلها إلى غزة، حيث تتولى هذه الشركة تفتيشها والتدقيق في نوعيتها وطبيعتها وحجمها والغاية من استخدامها قبل أن يتم نقلها بحراً إلى نقطة تم اختيارها على الشاطئ المقابل لحديث شرم وسط قطاع غزة. وستقوم قوات الاحتلال، بإنشاء قاعدة في تلك المنطقة لاستقبال المساعدات وجمعها في مستودعات كبيرة قبل الشروع في توزيعها. وحيث تريد قوات الاحتلال جعل القسم الأكبر منها متاحاً فقط لمن ينتقل للإقامة في مخيمات النازحين الجديدة التي يسعى العدو إلى نقل نحو 750 ألف شخص من منطقة رفح إليها، إلى جانب الضغط على من تبقّى من سكان شمال غزة للانتقال إليها.
قيادة فلسطينية بديلة
أما على صعيد الإدارة المحلية (الفلسطينية) لتوزيع المساعدات، فيبدو أن عليان اجتمع في الإمارات مع القيادي الفلسطيني المنشق محمد الدحلان، ومع رجال أعمال آخرين، بغية السعي إلى تشكيل فريق يضم «وجهاء محليين من أبناء القطاع، وقيادات من قدامى حركة فتح وشخصيات يعتبرها العدو مستقلة» تتولى إدارة عملية نقل المساعدات إلى السكان، بعيداً عن أي دور لقوى المقاومة وخصوصاً للإدارة المدنية الخاصة بحكومة غزة. ويتردد اسم رجل الأعمال الأميركي – الفلسطيني بشار المصري الذي يستقر في رام الله، وهو الرئيس التنفيذي لشركة «مسار» ذات الأنشطة العقارية والتجارية وساهم في إنشاء شركات في مجالات الخدمات المالية والاتصالات والإعلانات والمعلومات، إذ يسعى الجانب الأميركي بالتعاون مع قوات الاحتلال إلى تقديمه كقيادي «واعد للشعب الفلسطيني»، على أن تواصل قوات الاحتلال محاولات إقناع «مخاتير» محليين من قطاع غزة بالتعاون معها، بمساعدة الجانبين المصري والأردني تحت ذريعة أن في ذلك ما يقدم خدمات للناس المعوزين في القطاع.
وبحسب مصدر فلسطيني مشارك في مفاوضات التهدئة، فإن النقاش احتدم عند البحث في ملف المساعدات خلال شهر رمضان. وإذ وافقت إسرائيل على دخول 500 شاحنة يومياً إلى القطاع، تبين أن العدو يتحدث عما يمكن أن تحمله الشاحنات الـ 500 من مواد، وأنه في ظل تعذر وجود قوة محلية أو عربية أو دولية قادرة على تولي العملية، خصوصاً بعد إنهاك الجسم اللوجستي للأمم المتحدة، فإن العدو يعود دوماً إلى فكرة المساعدات عبر البحر أو من خلال الجو. وفي كل مرة، يدور النقاش حول الآليات العملانية الضامنة لنجاح هذه العملية، يهرب العدو من النقاش، ويحاول التركيز على أهمية «الاتكال على جهات محلية، تتعاون مع الجيش الإسرائيلي» للقيام بهذه العملية. ورغم أن إعلام العدو نقل معلومات عن رفض رئيس أركان جيش الاحتلال تولي جنوده المهمة، إلا أن عليان يعود ليطرح ضرورة إيجاد إدارة محلية جديدة لتولي المهمة، مع تركيز من جانبه على ضرورة أن لا يكون في صفوفها أي مسؤول حكومي سواء من المحسوبين على حماس أو على السلطة الفلسطينية، وأن يتم استبدالها بروابط محلية تتولى التنسيق مع مكتبه في الإدارة اليومية لهذا الملف.