بلا حسيب أو رقيب، تغزو السوق اللبناني عشرات الأصناف الغذائية خصوصاً من دون إخضاعها لفحوصات تثبت جودتها وصلاحيتها للاستهلاك البشري. المعيار الوحيد في الشراء هو القدرة على دفع السّعر، بغضّ النّظر عن النّوعية والجودة
مع انهيار الاقتصاد غزت السوق اللبناني آلاف العلامات التجارية الغذائية، محليّة ومستوردة، مما يقع في متناول غالبيّة اللبنانيين الذين خسرت رواتبهم نحو 90 في المئة من قدرتها الشرائية. أصناف جديدة يصعب حصرها حلّت مكان كثيرٍ من الـ«براندات» والعلامات التجارية التي باتت أسعارها خياليّة، إن توافرت، وتشمل الحبوب والمعلبات والزيوت والحليب والألبان والأجبان وغيرها من الأغذية ومواد التنظيف، إضافةً إلى ازدهار سوق «الفلت» والشراء بـ«الوقية» و«الكيلو»، من دون معرفة مصدر الصنف وصلاحيته وجودته. اعتماد الأصناف الجديدة، وبعضها بأسماء تحاكي «ماركات» معروفة، يعتمد بالدرجة الأولى، في ظل الغياب التام للدولة وأجهزتها الرقابيّة، على تبادل آراء الزبائن وتجربتهم مع منتجٍ ما، فيما يبقى المعيار الأساس في الشراء هو القدرة على دفع السّعر، بغضّ النّظر عن النّوعية والجودة. علماً أن ثمة أصنافاً غذائية كثيرة في المحلات التجارية، كالألبان مثلاً، بلا ملصقات تحدّد المصدر وتاريخ الصنع.
رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية في لبنان هاني بحصلي أكّد لـ«الأخبار» أنّ ما بات يدخل من مواد غذائية إلى لبنان «ليس نخباً أول أو ثانياً كما كنا نستورد قبل الانهيار، بل من درجة ثالثة ورابعة، لكنها جيّدة ومعتمدة في بلادها»، لافتاً إلى أن «أغلب المواد صارت تستورد من تركيا ومصر، وثمة أصناف – وإن بشكل أقل – من صناعة سورية».
«جيدة أو سيئة، توصيفات لا معنى لها. ما يحكم صلاحيّة منتج للاستهلاك هو التحاليل التي تجريها المختبرات الصناعية بشكل دوري ومنتظم للبضائع الواردة على الحدود البرية أو البحرية أو المطار»، وهو ما يشكك الباحث المتخصص في الهندسة الجرثومية والسموم الفطرية والزراعية في جامعة القديس يوسف أندريه خوري بحدوثه، ولأن «أحداً لا يضمن سلامة ونوعية ما يدخل البلد، لذلك فإننا نخاطر بما نأكله». وهو ما تجلّى أخيراً في ارتفاع أعداد مرضى التسمم الغذائي، الأمر الذي عُزي إلى البضائع التالفة التي يغيّر بعض التجار تاريخ صلاحيتها، أو بسبب فساد الأغذية لعدم توفر التيار الكهربائي. لكن، بحسب خوري، ثمة أيضاً «كثير من المنتجات الغذائية الجديدة لا يتم فحصها وقد تكون لها آثار سلبية فورية أو لاحقة».
رسمياً، المدير العام لوزارة الاقتصاد والتجارة محمد أبو حيدر أكد أن «مديرية حماية المستهلك إلى جانب الجهات المعنية مع وزارات الصحة والزراعة والداخلية، تُخضع المنتجات المستوردة للفحوص المخبرية لتحديد ما هو صالح للاستهلاك وما لا يطابق المواصفات. وفي ما يتعلق بالمنتجات المحلية، فقد «وجّهت الوزارة كتاباً لنقابة أصحاب السوبرماركت لتزويدها بمعلومات حول مختلف السلع المنتَجة محلياً والتي تُعرض لأول مرة في الأسواق ليتسنّى فحصها قبل عرضها للبيع».
أما على الأرض، فإن سلامة الغذاء في لبنان ليست مشكلة جديدة وقد شهدت فضائح تتعلق بانتهاك معايير الصحة والسلامة والنظافة وعدم الامتثال لمعايير الجودة. ولطالما افتقر هذا القطاع، حتى في «أيام الخير»، إلى المساءلة والمتابعة الجديّة ما خلا «غزوات» إعلامية في غياب أي استراتيجية لمراقبة السوق. وبحسب خوري، «ستبقى المشكلة قائمة طالما أن أكثر من مؤسسة رسمية تضع يدها على موضوع سلامة الغذاء. إذ إن هناك جهات رسمية متعددة (وزارات الزراعة، الاقتصاد، الصناعة، السياحة، الصحة، الجمارك اللبنانية، المجلس الوطني للبحوث العلمية…) جميعها تقول إنها معنية بسلامة الغذاء، فضلاً عن هيئات غذائية (هيئة السكر، هيئة القمح، هيئة الألبان والأجبان…) تدّعي أيضاً أنّها معنية بالأمر. علماً أن 80 إلى 90 في المئة من أعضاء هذه الهيئات تجّار، والتاجر لن يضع مواصفات تضرّ بمصلحته، ويخفف من التحاليل الغذائية إلى أقصى حدّ ممكن»، ناهيك عن «تضارب المصالح عندما تكون كل جهة تابعة لفريق سياسي». لذلك، «لا حل لمسألة سلامة الغذاء إلا عبر تفعيل الهيئة الوطنية لسلامة الغذاء التي صدر قانون بإنشائها عام 2015 وعُيّن مدير عام لها عام 2017، لكن حتى اليوم لم يتم اختيار أعضاء مجلس الإدارة لتبدأ الهيئة عملها». ولأن الهيئة «ضابطة عدلية تقوم بالفحوصات المخبرية وبجولات رقابية وتنظم محاضر ضبط وتختم بالشمع الأحمر كل مؤسسة تخالف سلامة الغذاء، لذلك هناك ضرورة بأن تكون الهيئة الوطنية الوحيدة المسؤولة عن هذا الملف اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، خصوصاً متى ما علمنا أن تجاوزات سلامة الغذاء كانت تتراوح بين 30 و70 في المئة قبل الانهيار الاقتصادي. ولنا أن نتخيّل الوضع اليوم».
المشكلة في لبنان عندما نتحدث عن سلامة الغذاء، يقول خوري، «أننا نتحدث عن التلوث الجرثومي (اشريشيا كولي، سالمونيلا…)، لكن ثمة إغفالاً للتلوث الكيميائي في الأغذية وهو أخطر بكثير. السموم الفطرية، والمضافات الغذائية، والمبيدات الحشرية، والمعادن الثقيلة، والملوثات الصناعية، والملونات… كلّها يتم إغفالها رغم أنها أخطر. وهنا الخطورة في ما يغزو السوق اليوم. إذ نستهلك موادَّ نراكم من خلالها عبر السنوات مواد كيميائية تؤدي إلى أمراض سرطانية وقلبية ودماغية». ويلفت إلى أن المنتجات الغذائية «تخضع عادة للفحص الجرثومي فقط الذي يؤدي في أقصى الحالات إلى حالات إسهال وقيء، فيما التسمم الكيميائي الذي يراكمه الإنسان يؤدي إلى الموت». ووفق خوري، «يوم كان الدولار بسعر صرف 1500 ليرة لم تكن تُجرى التحاليل الكيميائية اللازمة للأغذية لأن كلفتها أعلى بكثيرٍ من التحاليل الجرثومية. اليوم الوضع أصعب وإجراء هذه التحاليل يحتاج إلى مواد كيميائية وبيولوجية مستوردة بالعملة الصعبة. لذلك، أتحدّى أي جهة تتحدث عن إجراء مثل هذه التحاليل وهل لديها الجرأة لوضع علامة الجودة على المنتجات أو ما يضمن أنها لا تحتوي على كيميائيات وآمنة للاستهلاك؟»، مشيراً إلى أن هذه الفحصوصات تُجرى فقط للبضائع المعدّة للتصدير.
أبو حيدر، من جهته، يؤكد أن الفحوصات تجري على نفقة المصنع أو صاحب السوبرماركت، لا سيما لدى عرضها لأول مرة في الأسواق، مشيراً إلى «العقبة المعروفة وهي ضعف إمكانية الوزارة في الوصول إلى كافة نقاط البيع. إذ لدينا 70 مراقباً في مقابل 22 ألف محل سمانة»، مشدداً على دور البلديات «وصلاحيتها الرقابية الأوسع وقدرتها على تشميع المتاجر المخالفة».
«الركّ» على البلدي
في بلدٍ طبيعي، يُفترض أن تُخضع الجهات المعنيّة كل المواد التي تدخل السوق للفحص، بما فيها التي كانت موجودة قبل الأزمة والصناعات المحلية لمعرفة ما إذا كانت لا تزال تحتفظ بالجودة نفسها. ولكن، لأننا في بلدٍ غير طبيعي، ينصح الباحث المتخصص في الهندسة الجرثومية والسموم الفطرية والزراعية أندريه خوري بـ«الركّ» على الطعام البلدي والتقليدي، لتجنّب السموم الجرثومية والكيميائية. ويلفت إلى أن «علينا اليوم أن ننسى اللحومات الصناعية كالمرتديلا والجمبون وغيرهما، وعدم الإكثار من المواد التي تحتاج إلى التبريد ليتسنى لنا أن نزمط مرحليّاً من عملية التسمم نتيجة غياب الكهرباء، لأنه في كل 20 دقيقة في غياب التبريد يتضاعف عدد البكتيريا الموجودة على أي مادة غذائية».
المصدر| رحيل دندش – الأخبار