في حين تعيش مدينة طرابلس على وقع الثورة ضد الفساد والأوضاع الإقتصادية والإجتماعية المتردية، التي دفعت الناس إلى الساحات، رفضاً لسلطة أفقرت الشعب وضيّعت مقدرات البلد، فإنّ أسواق طرابلس، شريان المدينة الإقتصادي الحيوي، تعيش حالة من الركود لم تعرف لها مثيلاً منذ تأسيسها.
دخلنا قبيل الخامسة مساءً بدقائق قليلة إلى سوق الذهب أو سوق (الصاغة) الطرابلسي لنستطلع أوضاعه، ولم يكن بالحسبان أننا سوف نجده مقفلًا. عدد قليل جدًا من صاغة هذا السوق كانوا لا يزالون في محلاتهم لكنهم بالفعل كانوا يهمّون بالإقفال. ومما لا شك فيه أن ليست هذه حال سوق الصاغة الطرابلسي أبداً، الذي كان لسنوات خلت، يعجّ بالزبائن والروّاد ولا يقفل أبوابه قبل التاسعة أو العاشرة مساءً، فـ “رزق الله على أيام السوق، وعلى طرابلس أيام زمان”، كما قال أحد الأشخاص الذين صادفناهم خلال جولتنا في سوق الصاغة.
أصحاب محلات الذهب الذين أمكننا مقابلتهم في سوق الصاغة الطرابلسي، شكواهم واحدة وواضحة. لا بيع ولا حركة إنما عدد من النساء وبسبب ضيق الوضع الإقتصادي يأتين إلى هنا يوميًا تقريبًا ليبعن ما لديهن من ذهب كنّ يتزينّ به أو يخبّئنه لتأمين المصروف ولكي يستعنّ به على مصاعب الحياة.
“في حياتي لم أرَ مثل هذا الوضع في سوق الصاغة. أنا تاجر ذهب هنا منذ 50 سنة وعمري الآن تخطّى السبعين، ولا مرة مرّت عليّ أوضاع كهذه الأوضاع” يقول جميل حموي لـ “نداء الوطن”، ويتابع: “صرنا نشتهي أن تدخل سيدة ما فتقول أروني هذا الخاتم أو أريد ذاك السنسال. للأسف نفتح كما نقفل ما عدا حركة لبعض الزبائن كأن تأتي سيدة ما لتبيع خاتمها من أجل تأمين مصروف البيت أو سيدة أخرى تبيع قطعة أو قطعتين لنفس الغرض، أما عن الشراء فصرنا نشتهي من يأتي ويشتري”.
أما هلال المصري وهو صائغ في سوق الذهب أيضًا فيشير إلى أن الأزمة التي يمر بها سوق الذهب أو الصاغة تضع مصير العديد من العائلات والتجار والبائعين في مهب المجهول. هناك التزامات علينا لتجار من بيروت لا نستطيع إيفاءها وتأمينها .. لا شيء سوى زبائن تأتي لتبيع ما لديها من ذهب لتأمين المصروف ونحن مضطرون للشراء بنفس التسعيرة المحددة وفي حال عدم توفر الدولار علينا أن ندفع فرقه باللبناني حسب التداول الحالي في السوق”.
من جهته يشير سالم الأيوبي وهو صاحب محل في السوق منذ 20 سنة إلى أنّ “الوضع الإقتصادي منذ سنتين أو أكثر إلى تراجع في كل طرابلس وبطبيعة الحال في سوق الصاغة. كنا نعتمد في السوق على حركة المناطق من خارج المدينة، من عكار والمنية والضنية والكورة وزغرتا وبشري وغيرها من المناطق. ما يحصل من قطع للطرقات بشكل مستمر جعل الحركة تخف والوضع الإقتصادي مع الناس أيضًا من سيئ إلى أسوأ فمن سيشتري اليوم الكماليات عندما لا يمكنه تأمين الأساسيات كالأكل وخلافه؟”.
وبالحديث عن سوق الصاغة الطرابلسي وهو سوق أثري جميل وتحفة حقيقية من تحف العمارة، فلا بدّ من الإشارة إلى أن هذا السوق الواقع في طرابلس القديمة، قد أنشئ منذ ما يربو على 800 سنة، على يد تاجر روماني من بوخارست أتى إلى طرابلس واتخذ له زوجة من المدينة كما تروي القصص. وقد أنشأ أول محل صاغة في السوق وشجّع غيره من التجّار على فتح محلات صاغة ثم توّسع أولاده في السوق وفتحوا عدة محلات لبيع المصوغات. ومن الجدير بالذكر أن هذا السوق الذي يعتبر من أهم الأسواق التجارية في مدينة طرابلس، يمتاز أيضًا بفن عمارته الهندسية التي تعود إلى عصور خلت مرّت وتعاقبت على مدينة طرابلس ولا يزال يحافظ على أصالته التراثية.
سوق الصاغة في طرابلس مثله مثل العديد من أسواق مدينة طرابلس التي تعاني من تراجع الدور والمكانة، وتترحّم على أيامٍ وسنوات خلت، كانت لها فيها ألقها ورونقها، حتى أتى هذا الزمن الرديء فخرّب كل شيء جميل ومنها هذه الأسواق وأهميتها وكيانها.