اخترن أصعب المهن وأكثرها إنسانية، كون هدفهنّ سامياً، يتمثل بمد يد المساعدة للغير وتخفيف آلامهم، وإن عرّضنَ حياتهنّ للخطر وهنّ يقمن بذلك، فكل همّهنّ زرع الأمل في قلب المرضى والبسمة على وجوههم. هنّ الممرضات، ملائكة الرحمة على الأرض اللواتي يشاركن المريض وجعه وقلق أهله. وإن اخترن من خلال هذا التقرير توجيه التحيّة لهن خلال الحرب التي يخضنها في مواجهة فيروس كورونا المستجد لمناسبة يوم المرأة العالمي، فان الأمر لا يعني استثناء كل الطاقم الطبي والتمريضي والمتطوعين الذين يضيئون شمعة في عتمة المجهول الذي نشره المرض في لبنان والعالم.
فمع انتشار كورونا سُلّط الضوء على دور الممرضات، لاسيما في مستشفى رفيق الحريري الذي يستقبل المصابين بالفيروس المستجدّ الذي أرعب العالم، ومع هذا هناك من يلامس الخطر من أجل العمل على متابعة حالات المصابين وتأمين الراحة لهم، وإن كلّفهن ذلك إمكانية انتقال العدوى إليهم، منهم الممرضة مي ضاوي ابنة الخيام، التي كرّست نفسها منذ 12 سنة في خدمة المرضى، وعندما ظهر فيروس كورونا لم تتوانَ عن الانخراط في مساعدة المصابين، على الرغم من كل التعب والخطر الذي يحيط بها وبزملائها من الطاقم التمريضي والطبي.
طريق التمريض
في الجناح المخصص للمصابين بفيروس كورونا تداوم ابنة الرابعة والثلاثين ربيعاً، وتؤكد “أن الخوف من الإصابة بالفيروس أمر طبيعي، كونه فيروساً خطيراً له تبعات على صحتنا وحياتنا وعلاقتنا بالناس، لكن كوني اخترت هذه المهنة، يعني أن لديّ التزاماً، أنا أؤمن برسالتي، وأن لديّ قدرات أستطيع من خلالها أن أفيد المجتمع، لذلك أقوم بمهنتي بسعادة، فقمة فرحي أجدها عندما أساعد الغير”. وعن كيفية اختيارها طريق التمريض تقول: “منذ صغري فتحت عينيّ على مرض والدي المزمن الذي فرض عليه غسل الكلى، كنت أراقب مدى تأثير الممرضات على نفسيته، من خلال إعطائه جرعات أمل ساهمت في رفع معنوياته ودفعه للصمود والمقاومة وعدم اليأس. من هنا تعرفت إلى هذه المهنة، وكان لديّ الحافز كي أدرسها لأستكشف عندها جانبها العلمي المذهل من ناحية المعلومات القيمة، وعندما زاولت العمل على الأرض لمست كم هي رسالة إنسانية”.
مهنة المخاطر
فيروس كورونا ليس الخطر الأول الذي واجهته مي، وإن كان كما قالت: “الأكثر تفشّياً وإثارة للهلع العالمي وليس الوطني فقط، لكن يوجد عدة أمراض معدية خطرة تعاملت معها، منها السل والسيدا، فإذا كانت نقطة قوة الفيروس المستجدّ سرعة انتشاره، إلا أن لديه نقاط ضعف عدة، منها موته خلال ساعات معينة وعلى درجة حرارة محددة وعدم انتقاله من مسافة متر إلى مترين، لكن خطورة السلّ تكمن في أنه جرثومة تطير في الهواء ويمكن أن أكون في غرفة تبعد عن المريض وأصاب بها، والسيدا فيروس خطير كذلك يمكن أن ينتقل أثناء وخزي المريض بإبرة فيما لو كان لديّ جرح لامس دمه”.
صعوبات ومواقف مؤثرة
صعوبات كثيرة تواجهها مي في مهنتها لكونها امرأة، منها دوامات العمل الطويلة، في الليل والنهار، ما يشكل ضغطاً نفسياً ويحدّ من علاقاتها الاجتماعية، وقالت: “كثيرون يدركون أن كل المحاذير تتلاشى عندما يتعلق الأمر بالصحة الإنسانية، وإن التمييز بين الذكر والأنثى والكبير والصغير لا قيمة له عندما نكون أمام مريض يجب الاعتناء به”. وعن الصعوبات المستجدة مع كورونا أجابت: “حادثة واحدة كفيلة بشرح ذلك، فقد طلب أصدقاء خطيبة شقيقي منها عدم زيارتها لهم لمجرد أنها قابلتني”. وعن أكثر المواقف التي أثّرت بها خلال رحلة عملها أوضحت: “الآن خوف المصابين بكورونا من تعرّضهم للتنمّر، لذلك يشددون على ضرورة عدم معرفة الناس بأسمائهم، والسيدات المصابات به اللواتي يتمنين اللحظة التي يحضنّ بها أولادهنّ، كما سبق أن أثّرت بي مريضة سرطان عندما عرفت بحقيقة مرضها، طلبت تسريح شعرها لالتقاط صورة جميلة لها قبل ان تبدأ العلاج الكيميائي”.
طموح كبير
18 سنة قضتها ندين القاضي (40 سنة) والوالدة لثلاثة أبناء في مهنة التمريض، 16 سنة منها في مستشفى رفيق الحريري الجامعي. ابنة الشوف اختارت هذه المهنة لسببين أولهما أنها ومنذ صغرها تسارع إلى تقديم المساعدة عندما تجد مريضاً أو جريحاً حتى لو لم تكن تعرفه، ثانياً، كما قالت: “درست سوق العمل وجدت أن مهنة التمريض من ضمن المهن المطلوبة، حصلت على إجازة بها، تابعت دبلوم في اختصاص الأطفال وحديثي الولادة، حيث اكتشفت عالماً جديداً وخبرة جديدة، ومن ثم حصلت على ماجيستير في إدارة المؤسسات الصحية، والآن أطمح إلى شهادة الدكتوراه”. وتابعت: “أعمل في وحدة التدريب والتطوير المستمر، حيث أدرّب الطاقم التمريضي على المهارات، منها كيفية ارتداء وخلع الألبسة الواقية”.
سيف ذو حدين
عدم اختلاط ندين بالمرضى المصابين بفيروس كورونا لم يحُل دون تعرّضها لمواقف في حياتها اليومية، منها رفض سائق سيارة أجرة إيصالها لمجرد أنها أطلعته أن وجهتها مستشفى الحريري، عدا عن الكمّ الكبير من الاتصالات التي تتلقاه يومياً من أقاربها حيث يطلبون منها الانتباه إلى نفسها، ومع هذا لم تغيّر أسلوب حياتها ولا زالت تقوم بزيارات إلى معارفها بشكل طبيعي، وعما قدمته لها مهنتها أجابت: “هي سيف ذو حدين، حسناتها أنها منحتني ثقة بالنفس، أصبحت طبيبة العائلة، علمتني الصبر وأشعرتني أنني عنصر فعال في المجتمع، وهي لا تقتصر على جانب الاهتمام بالمرضى بل لها أبواب عدة منها الإرشاد والتوعية والتعليم في الجامعة، أما جانبها السلبي فدوام العمل الطويل الذي يؤثر على اهتمام السيدات بعائلاتهن”.
مواقف لا تُنسى
خلال مسيرتها المهنية، موقفان أثّرا بندين، أولهما طفل حديث الولادة، بقي في المستشفى 6 أسابيع، كانت تهتم به وتطعمه، إلا أنه توفي بعد شهرين من خروجه من المستشفى، أما الموقف الثاني كما قالت: “قبل 4 سنوات وقعت ابنة شقيقتي التي كانت تبلغ من العمر حينها سنة وثلاثة أشهر عن الكنبة، أصيبت بموت دماغي، طلبت مني شقيقتي أن أبلغها خبر وفاتها لا المستشفى، شعرت أني وُضعت في أصعب موقف قد أمرّ به في حياتي”.
مي وندين مثلان عن الممرضات اللواتي تصادفهم في المستشفى الحكومي وهن يهرعن لاستقبال الحالات المشتبه في اصابتها بـ”كورونا”، ويحرسن المصابين ليل نهار ويقاومن اليأس وضعف الامكانات ويخضن معركة شدّ أعصاب في مواجهة الفيروس السهل الانتشار، ولا شك أن قصصهن تحمل الكثير من العبر خصوصاً حين يعدنا الى منازلهن ويحطن بنظرات الريب والخوف، على ما جاء في حديث المصارحة معنا. مي وندين مثلان عن آلاف الممرضات اللواتي يعتبرن سلاحاً فعالاً للمرضى في مقاومتهم الألم والوجع الذي أصابهم، فلهنّ ألف تحية وشكر في يوم المرأة العالمي.
اسرار شبارو – النهار
-الصور لنبيل اسماعيل