يقول أحد النواب “التقال” ذات الصلة بجذور “دولتنا العميقة”، أنّ “كبارَ المودعين سياسيًّا”، تبلَّغوا قبل فترةٍ وجيزةٍ بنود صفقةٍ – حلّ للوضعِ اللبناني الذي كان يومها ينزلق بإطار “مضبوطٍ” بإتجاه الدخول في عنق أزمة مالية. بُنِيَ الاقتراح يومها على مسودةِ صفقة القرن على قاعدة “الديون مقابل التوطين”.
وقتذاك، كان البحث يرمي إلى “إغراء” لبنان من خلال طرحٍ يقوم على شطب جزءٍ كبيرٍ من ديونهِ السياديّة بنسبةٍ تُقدَّر بـ 40 مليار دولار أميركي “كاش”، في المرحلةِ الاولى، وفي الثانية يُمنح قرابة الـ10 مليارات أخرى، بالإضافة إلى سيلٍ من الودائعِ التي تُرمَى في خزينتهِ الخاوية بفوائد متدنية، مقابل البدء بإجراءاتٍ تدريجيّةٍ لتوطين ما يُقارب 200 ألف فلسطيني (وفق إحصاء منظمات دولية) و800 ألف سوري بشكلٍ مُتَدَرِّجٍ.
طبعًا، المعنيّون رفضوا هذا المقترح كليًا، على إعتبار، أنّ له تأثيرات بنيويّة على شكلِ التوزيعِ الديمغرافي للسكان، وقد يؤدّي هذا التلاعب بالجغرافيا الاهلية في لبنان الى ظهور أشكالٍ متنوعةٍ من الحروبِ الاهليّة، بين الطوائف التي سترفض منطق الزيادة “غير الشرعية” في الأعداد، وبين من يرفض مبدأ التوطين والتجنيس من أصلهِ، هذا فضلًا طبعًا عن أمورٍ ترتبط بالنظرةِ السياسيّة لدى الأطراف حيال المهمّة الوظيفيّة المُترتِّبَة عن أي إجراءاتٍ مماثلة.
وفي ضوءِ ذلك، تمثَّل الموقف اللبناني، بأننا “في حلٍّ من أيّ إجراءٍ من هذا النوع، ومن تنفيذ أيّ من بنودِ صفقةِ القرن، لذا اعفونا واسمحوا لنا”، فكان الردّ الغربي على شكلِ، “إذًا… تحمَّلوا الرياح العاتية”.
وبالفعل، بدأت هذه الرياح تشقّ طريقها على طول البلاد وعرضها. أولاً، من خلال إرتفاعِ نبرةِ العقوبات الاميركيّة لتشمل المصارف في ظلِّ التلويحِ بتوسيعِ دائرتها لتطال بعض الأحزاب المتحالفة مع حزب الله، ثم بدأت انعكاساتها الواضحة تُرخي بظلالها على الواقعِ الاقتصادي اللبناني الهشّ، من نفاذِ الدولار من السوقِ، وصولاً الى إجراءاتِ المصارف التي يعتريها الخوف، ما أدّى طبعًا الى نشوءِ أزماتٍ على مستوى الرغيفِ والمحروقاتِ والشارعِ إلخ…
وما زادَ الطين بلّة، أنّ لبنان لم يكن متشجّع حيال الخطط الأميركيّة الرامية لإبرام إتفاق ترسيمِ حدودِ بحريّة مع إسرائيل الأمر الذي تريده واشنطن من أجل إمرار عملية التنقيب عن النفطِ والغازِ اسرائيليًّا بسلاسة. عّبر عن فحو القرار اللبناني من خلال تهديدات رئيس مجلس النواب نبيه بري أمام أكثر من موفدٍ أميركيٍّ معنيّ، ومنهم مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط الأميركية ديفيد شنكر، الذي لوَّح أمامه، بأنّ “إستمرار الضغطَ قد يُجبرنا على خياراتٍ أخرى”.
ومع رفضِ هذه الاقتراحات وقبلها رفض صيغ الإغراءِ المُتَّصِلة بالنازحين، كان لبنان يمقضي قدماً بإتجاه دفع الثمن!
المشكلة، أن الأزمة أتت ولبنان كان عالقٌ بين شباك مؤسسات التسليف الدولية بما فيها البنك الدولي. وعندما كان مديوناً لقاء الفوائد أيام البحبوحة، بات اليوم فعلياً مديوناً بكفالة رهن الحقوق السيادية.. ويريد المزيد!
هذا بالضبط ما يوجب عليه الآن دفع ثمن ديونه نقداً من حقوقه السيادية. في الواقع، أن إختيار هذا التوقيت للتسديد غير منفصل عن الازمات الكبرى التي تعيشها المنطقة ولبنان من ضمنها.
وفي حالتنا الراهنة كدولة واقعة على شفير الإفلاسِ أو تعاني منه ومديونة لمؤسسات القروض والبنك الدولي، تصبح إحتمالات إبتزازها ودفعها نحو التنازل عن حقوقٍ سياديّةٍ خالصةٍ، من ثروات وغير ذلك مرتفعة، سيما لـ”البنك الدولي” الذي يسن أسنانه إلى إقراضنا المزيد مقابل تنازلنا عن المزيد إنطلاقاً من فتوى وزير العمل كميل أبو سليمان.
وبموجب ذلك، يمنح “البنك” حقّ فرضِ الشروطِ تدريجيًّا على لبنان كلَّما تأخَّر في تسديدِ موجباته، يصبح هذا متوقع الحدوث ما دام الحديث السّائد الآن يتعلَّق بعدم قدرة الدولة على تسديدِ موجباتها من ديونٍ وفوائدٍ على ديونِ ورواتبِ الموظفين بداية العام المقبل، في حال بقيَ الوضع السياسي على النحو الجاري، ناسٌ في الشارعِ وحكومةٌ في الموتِ السريري!
لكن في الحقيقةِ، ما تطاوله المخاوف من إحتمال مدِّ يد البنك الدولي اليه يرتبط بتقرير مصير استخراجِ الغازِ والنفطِ في البحرِ!
هذا بالضبطِ ما تريده واشنطن التي ترى، وفق معتقدات الرئيس دونالد ترمب، أنّ ثروات العالم من الغازِ والنفطِ، هي بمثابة الحقوق السياديّة لأميركا بصفتها الدولة الأقوى في العالمِ!
لهذه الغاية، ترفض حتى الآن دفع محرّكات مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر مجددًا بإتجاه تأمين إتفاقٍ أميركيٍّ حول ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان واسرائيل بعدما رفضت تل أبيب قبول أيّ منطقٍ يقول بتقاسمِ البحر مع لبنان اطلاقًا، بل هي تريدُ حصّة الأسد وترك لبنان يلعب بالفتات.. هذا إذا بقيَ من فتاتٍ في ظلِّ عملية المراوحة التي تستفيد منها اسرائيل في التعجيل بأعمالِ التنقيبِ.
بناءً على ذلك، تُصبِح الفوضى مطلوبةٌ في لبنان، أولاً لمعاقبتهِ على رفضِ صفقةِ الـ 50 مليار دولار، وثانيًا، من أجل منعهِ من استخراجِ حقوقهِ في المياه التي تدخل فعليًا مرحلة العدّ العكسي، ومنع تحوّله إلى دولةٍ مُقرِّرة مرتاحة من أجل إتاحةِ الفرصةِ لاسرائيل حتى تتربّع على عرشِ النفطِ في المنطقة.