مراسلون سابقوا الكارثة ونسوا أنفسهم.. “ابني أقرع هل رأيته؟”

مراسلون سابقوا الكارثة ونسوا أنفسهم.. “ابني أقرع هل رأيته؟”

- ‎فيالمحلية

مراسلون عرفناهم نزلوا الى أرض الموت والخراب، فكانوا عين الوطن الجريح، نقلوا الى ضحاياه الصامتين صور الرعب والدمار، وخبأوا في ذاكرتهم صوراً اشد قتامة وقسوة، يروون لـ”نداء الوطن” ما عاشوه ذاك اليوم، ما نقلوه من مشاهد وما حفظوه في زوايا الذاكرة.
بيترا أبو حيدر: مسيرة الموت من الكرنتينا إلى المرفأ
كانت بيترا أبو حيدر مراسلة LBCI الشابة تقوم بتغطية تظاهرة من أمام وزارة الطاقة وتنتظر في السيارة نشرة الأخبار لتطل مباشرة من هناك حين تقدّم ضابط وأخبرها بأن ثمة حريقاً اندلع على المرفأ. “بعد قليل، سمعنا صوتاً غريباً يشبه المفرقعات تقول بترا ظننا انه في وزارة الطاقة ففتحنا الهواء مباشرة وإذا بانفجار يدوّي قوياً ونفاجأ بعناصر قوى الأمن يخرجون من المكان تغطيهم الدماء، والسيارات من حولنا قد تساقط زجاجها. توجّهنا على الفور نحو الكرنتينا. هنا تجّلت لنا المنطقة كأنها ساحة حرب”. أسفل بناية مهدّمة صدمت المراسلة الشابة بمشهد رجل مدفون تحت الردم… وبدأ يتكشف أمامها منظر السيارات المنقلبة على ظهرها وفوضى الناس الذين يركضون في الشارع مدممين والصراخ والعويل الذي يملأ الامكنة.
” شاب سوري وقف أمامنا يصرخ: بنتي عم تموت. وبالفعل رأينا رجليها “تبرعطان” تحت أنقاض المبنى. على الهواء بدأنا ننقل صور الفاجعة ونناشد الدفاع المدني والصليب الأحمر الحضور لإنقاذ المطمورين تحت الأنقاض، دخلنا الى شارع الكرنتينا من الجهة الخلفية، ذهلنا بفداحة الأضرار التي رأيناها لكننا لم نكن قد فهمنا بعد ما يجري الى أن خرجنا من الكرنتينا لجهة تمثال المغترب اللبناني وانكشف لنا من فوق مشهد المرفاً الخيالي وكأنه من عالم آخر، دخان ودمار وكتلة نار كبيرة… توجهنا نحو مدخل المرفأ من التمثال سيراً على القدمين وسط الركام والسيارات المحطمة. هنا رأينا محافظ بيروت القاضي مروان عبود يبكي و يصرخ: “راحوا الشباب، أنا أرسلتهم لإطفاء الحريق، راحوا… شو بدي قول لأهلهن؟ ” منعنا الجيش من الدخول لكن المحافظ انتهره وأدخلنا برفقته الى منطقة الإهراءات. هنا تظهّرت الكارثة بأقسى صورها، جثث على الارض التي بدت كأنها قد انقلبت رأساً على عقب وانغمرت بالماء والوحل والتراب الذي غرقنا فيه حتى ما فوق الركب”.

“في هذه الأثناء تلقيت اتصالاً على هاتفي من امرأة أجهلها كانت تسألني بصوت يملأه القلق: ابني أقرع هل رأيته؟ فصرت أتجول بين الدمار وأنا أصلي ألا أرى جثة شاب أقرع!”
اللواء عباس إبراهيم كان قد وصل في هذه الأثناء فسارعت بترا تسأله عما حصل فكان جوابه إنها مواد شديدة الانفجار. “لم أكن قد عرفت بعد مدى الأضرار في بيروت لكنني شعرت بخوف كبير من تداعيات هذا الانفجار. وكنت أسترق الوقت لأرسل الى أهلي رسائل خطية أطمئنهم عني وكانوا خائفين يوصونني بأن اضع كمامتي وأن احذر المواد الكيميائية… حين انتهت تغطيتي وعدت الى بيتي انهرت بالبكاء بعد ان كنت قد تمالكت نفسي لساعات، لم أنم لعدة أيام لكن كان علي أن أعود الى هناك لنعيش زملائي وأنا مع أهل الضحايا الذين يبحثون عن جثث أبنائهم. عشت معهم مأساتهم ووجعهم وصرنا كلنا كعائلة واحدة لذا منذ ذلك الوقت جعلنا من محاسبة المرتكبين قضيتنا وبقيت الصورة الأبرز في ذهني: البذلات السود والتوابيت البيض”.رالف ضومط: نظام الأمر الواقع وسط الفوضى
رالف ضومط كان في محطة MTV بعد انتهاء دوامه حين أحس مع زملائه بالانفجارين وعرفوا أنه لا بد من أمر خطير وكبير، لكنهم لم يربطوه بفيديو الحريق الذي تلقوه سابقاً. على الفور توزعوا المهام وانطلق رالف نحو المستشفيات لأنهم توقعوا سقوط ضحايا وبعد أقل من ساعة كان قد وصل الى مستشفى الروم رغم زحمة الطريق الخانقة وتناثر الزجاج على الأرض بدءاً من منطقة الزلقا، لوغو المحطة على السيارة ساعدهم في فتح طريق لكن الركام والشجر والزجاج المتناثر الذي بدا وكأنه طبقة من الثلج الزلق تغطي الطريق لا سيما في الأشرفية عرقل تقدمهم. قبل الوصول اتصل بأكثر من مستشفى ليأتيه الجواب واحد: «تدمرنا والمصابون ملأوا المستشفى». حينها تأكّد أنه انفجار اكبر من المتوقع.
يروي رالف كيف وصل امام مستشفى الروم قائلاً: «التقيت بشقيق زميلنا موريس متى الذي كان مصاباً وكان في حال من الصدمة فكلمته وحاولت تهدئته. على باب المستشفى الناس في حالة ذعر وصدمة، كبار في السن تغطيهم الدماء وشباب يحاولون مساعدة المصابين والدمار مهول في كل مكان. د. عازار طلب منا ان نطلع ببث مباشر «لمطالبة الجيش بالقيام بعملية إخلاء للمستشفى المدمّر الذي لم يعد قادراً على استقبال المزيد من المصابين». صور كارثية كثيرة أحاطت برالف من كل الجهات: الممرضات يقطبن جراح بعضهن البعض، الأطباء يعملون خارج المستشفى وعلامات الإعياء بادية عليهم، عاملات أجنبيات جالسات بذهول يشلّ الذعر وجوههن، ولد ضائع لا يجد أهله ويسأل المراسل عنهما وماسكات مرمية على الأرض…
المصابون على الأرض لا أماكن لهم»، يروي رالف، ضجة فوضى عجقة رعب وصراخ ولا تزال بقايا ركام تتساقط من الأسقف والجدران. فجأة انطلق إنذار بإخلاء المستشفى بسبب تسرّبٍ لمادة ما.
كان رالف متأكداً ان لا بد من وجود اصدقاء له بين المصابين الكثر وعرف أن إحدى الصديقات هنا لكنه لم يجرؤ على السؤال رغم المأساة لم يكن الوقت للإنقاذ بل لنقل فداحة الحدث الى الملأ، بعض الناس كانوا يتصلون به عبر رسائل نصية طالبين منه الاطمئنان عن أبناء او أهل او أحباء لهم في المستشفى. «ومرات كنت أعرف أن هذا الإسم قد فارق الحياة فأحولهــم الى شخص آخر… «

في مستشفى الجعيتاوي الصورة ذاتها: دمار جنون، صراخ وبكاء ومصابون يطلبون العلاج. لكن بقدرة قادر صارت الفوضى منظمة ووضع نظام وسط الأمر الواقع للمساعدة لكنه سرعان ما بات غير قادر على الاستيعاب. وسط العتمة والخراب المهول رأيت الناس في الجعيتاوي يكنسون الزجاج المحطم من أمام بيوتهم».
حين عدت الى البيت أدركت أنه نهار مفصلي في حياتي وحياة لبنان، أنا المراسل الشاب الذي لم أعش الحرب وجدت نفسي في خضم حدث هائل ودمار شامل أراه ولأول مرة في حياتي وفهمت كم هم محظوظون من بقيوا أحياء وسط هذا الكم من الضحايا الذين فقدوا حياتهم.

آدم شمس الدين: المشي بين الجثث
كان آدم شمس الدين في مكتب التحرير في تلفزيون الجديد حين دوى صوت الإنفجار قبل وصول عصفه، إقترب من النافذة عله يعرف مصدر الهدير بعد أن ظن أن الانفجار في الشارع نفسه، نزل الدرج حاملاً طاسته، لم تحمله رجلاه فتعثر، أخذ دراجته وعلى الفور تلمس حجم الكارثة، رأى الدخان الزهري اللون من بعيد فسلك أوتوستراد سليم سلام باتجاهه، هنا بدأ يرى الناس مصابين تغطيهم الدماء والزجاج متناثر على الارض، خيّل إليه ان الدخان يتصاعد من وسط بيروت فتابع سيره حتى وصل الى قاعدة بيروت البحرية. هنا كان الدمار يعيق اي تقدم فأكمل سيره مشياً نحو بوابة المرفأ حيث رأى الجثة الأولى، وصدم ببحر من الناس يركضون من داخل المرفأ نحو الخارج هرباً من انفجار آخر.
لم يكن آدم قد أدرك بعد ضخامة الانفجار وعصفه لكن الدمار الذي طالعه في الأبنية المحيطة بالمرفأ كان فظيعاً. فُتحت بوابات المرفأ وتدفقت سيارات الإسعاف والدفاع المدني نحو ما سوف يتبين لاحقاً أنه مسرح لكارثة لم يشهد لبنان لها مثيلاً. في تلك اللحظات الأولى كان الرعب يفوق التصور كل من له اقارب في المرفأ هرع الى البوابات. «رأيت رجلاً هادئاً جداً ما زلت أذكر وجهه حتى اليوم واقفاً وقال لي افتش عن أخي».
أكثر من إطار تكشف آدم بالتتالي: مشهد الإهراءات وهي مقسومة في الوسط، مشهد الهنغارات على يمين الانفجار وكأنها قد ذابت وتحولت هياكل عظمية، منظر البناية المحاذية للمرفأ وقد اصابها دمار كلي… حينها بدأ يستوعب أن شيئاً كبيراً قد حدث.
ويروي قائلاً «كان ثمة استحالة في الوصول الى الاهراءات حيث ارتفع جبل من الردم، فجأة صرخ عسكري إنتبهوا اين تمشون، حينها أدركنا أن الجثث منتشرة من حولنا وأننا لم نعد في مرفأ بيروت بل في مقبرة جماعية. رأيت كف يد على الأرض من دون جثة، جمدت ونظرت حولي ورأيت ثلاث جثث فصرت انتبه الى خطواتي حتى لا أمشي فوق الجثث». شقيقه الطبيب اتصل به من لندن ليطلب منه الحذر من المواد الكيميائية واستخدام شاشة رطبة لكن الأمر كان ساعتها مستحيلاً.
حين حل الظلام كان الحدث قد انتقل الى مستشفى أوتيل ديو: «الصورة الأبرز التي لا تزال عالقة في بالي هي الوتيرة التي كان يتم فيها الإعلان عن وفاة مصاب. فكل خمس دقائق كان احد المنتظرين يتبلغ بوفاة قريب فيخرج باكياً وترتفع الأصوات من حوله ويحضن الناس بعضهم باكين حتى بدا الأمر وكانه نمط مفجع خبيث». حين طلب منه النزول الى منطقة الجميزة فهم آدم حجم الكارثة. «شعرت نفسي أدخل منطقة لم أر مثيلاً لما حل بها إلا في وثائقيات الحرب العالمية الثانية او مناظر من حرب تموز. صدمني منظر مبنى شركة الكهرباء و قد بدا كأنه على العضم. غادرنا حوالى الساعة الواحدة وكان بعض الناس لا يزالون عالقين في بيوتهم. وسط الطريق كدنا نصطدم بسيدة كانت توقف اياً كان لإنزال والدتها العجوز العالقة في الطابق الخامس. اوقفنا الدراجة وانزلنا السيدة الأرمنية و أكملنا طريقنا».
حتى اليوم يقول آدم لم ارجع الى طبيعتي ولن أرجع كل واحد منا فقد شيئاً ما في الرابع من آب ولا نزال نتشرب تداعيات هذا الانفجار ونحاول فهم ما حصل.
جيسي خليل: من البحر تكشف هول المشهد
يوم الرابع من آب كانت جيسي في وزارة الخارجية تغطي عملية تسلم الوزير شربل وهبة لمهامه، تركت المكان بعد الظهر عائدة الى منزلها في الذوق حين سمعت دوياً لم تفهم ما هو انتظرت حتى فجراليوم التالي لتنزل الى الأرض في تغطية مباشرة. تقصدت الذهاب أولاً الى وزارة الخارجية حيث هالها المشهد، فالمكان الذي كانت تقف فيه مع المراسلين بالأمس تهدّم، انهارت جدرانه وقذفت الأبواب من مكانها وكان الجميع خائفين من ان يسقط المبنى لشدة تصدعه، عرفت حينها أن عمراً جديداً قد كتب لها ولمن كان في الموقع.
في الجميزة ومار مخايل المنكوبتين لم تر جيسي زفت الطريق التي اكتست بطبقات من «غبرة» الزجاج والردم والخشب. الناس هائمون في الشوارع كالموتى الأحياء يبحثون عن أحبة لهم، أو عن أغراضهم، مذهولين ضائعين لم يستوعبوا بعد ما حصل، ولا يعرفون أين يذهبون او ماذا يفعلون. منظر «يقطع القلب» يختصر التناقض كله بين بيروت الحياة والفرح والسهر وبيروت الموت والعتمة والحزن. على اوتوستراد الكرنتينا رائحة الحريق كما الرماد يملآن المكان ومشاهد كأنها من نهاية الدنيا، جثث مشوهة داخل السيارات او على الطريق، اشخاص مدممون وضائعون رغم مرور ساعات، سيارات تلطخها الدماء، سيارات ودراجات تتوقف من تلقاء نفسها لنقل الجرحى والمصابين.
«انتقلت الى المرفأ وأول صورة طالعتها مشهد القمح وقد تكوم تلالاً وسط الدمار الكلي، ومشهد شباب الدفاع المدني والجيش يبحثون بين الانقاض عن جثث او ناجين، والناس تتدافع من فوق محاولة الدخول والبحث عن احبائها في حالة من الفوضى والعجقة». برفقة الجيش ذهبت جيسي في جولة في البحر ليتبين لها فداحة الدمار من الجهة الخلفية وأدركت ساعتها أنه من شبه المستحيل إيجاد اشخاص أحياء وسط هذا الهول. من البحر رأت الباخرة السياحية «أورينت كوين» وقد انقلبت على جنبها والبواخر كلها مشتتة ضائعة في غير مكانها.
« لم اشعر بالخوف تقول جيسي فعلى الارض المهنية تتغلب على اي شعور آخر لكن حين بدأت استمع الى قصص الناس وشهاداتهم أصبت بالصدمة لم تكن تلك صور جامدة بل أشخاص يحكون كيف فقدوا احبة و اضاعوا جنى العمر لا يعرفون اين يذهبون لا يفهمون ما جرى، فما عاشوه من رعب وألم فوق ان يتصوره عقل»

نداء الوطن