ونحن، الناجون الذين عثروا علينا منذ ولدنا في هذه البلاد إلى اليوم، نتلمّس أحوالنا، وفي يأسنا ينبّهنا كلب إلى وجود نبض تحت الأنقاض. لكن، يا الله، أهناك نبض فوق الأنقاض؟!

ونحن، الناجون الذين عثروا علينا منذ ولدنا في هذه البلاد إلى اليوم، نتلمّس أحوالنا، وفي يأسنا ينبّهنا كلب إلى وجود نبض تحت الأنقاض. لكن، يا الله، أهناك نبض فوق الأنقاض؟!

- ‎فيالمحلية

العثور على ناجين؟ التعبير بحد ذاته مثير للقهر. أي نجاة في بلاد ترزح كلها تحت خط القهر؟
حتى كتابة هذه السطور كانت فرق الإنقاذ تحاول البحث تحت الأنقاض عن شخصين يعتقد أنهما لا يزالان على قيد الحياة منذ تفجير مرفأ بيروت قبل أكثر من شهر. شهر كامل مرّ كانت خلاله السلطات اللبنانية، الغارقة في فسادها وإهمالها، قد تركت المواطنين في شوارع المدينة المتضررة بشدة، يعملون، متطوعين وجمعيات على رفع الركام ومحاولة اعادة الحياة إلى الأحياء التي عصف بها التفجير ودمّر ابنيتها وقتل وجرح وشرّد أبناءها. “في عداد المفقودين” سجلا هذين الشخصين الذين سمع نبضهما بحسب فريق الإنقاذ الشيلي تحت الركام، ومعهما آخرين، كما لو انها الجملة السحرية التي تستخدمها السلطة للتنصل من مسؤولياتها. ولا أرقام رسمية لدى السلطة لهؤلاء المفقودين. لا تعرف السلطة كم من مفقود لا يزال هناك تحت أنقاض المرفأ. ومع ذلك، أكملت الحياة، على جميع الصعد. اكملت السلطة اعادة إنتاج نفسها بأوكسيجين خارجي أمّنه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي في زيارتين، سمع على ما يبدو نبضاً للمنظومة الحاكمة تحت الأنقاض، وقرر انتشالها وإعطاءها فرصة جديدة. شمّ الرئيس الفرنسي رائحة رغبة بالإنتداب تفوح من جديد من جثة المنظومة الحاكمة، فجمع أشلاءها في المكان الذي أعلن منه المفوض السامي العسكري هنري غورو دولة لبنان الكبير قبل مئة عام، ونفخ فيها الروح بأسلوب يشبه أسلوب غورو نفسه، مع كثير من اللغة التأديبية التأنيبية الكولونيالية.

كل ذلك كان يحدث وهناك أشخاص تحت الأنقاض، ولا تزال قلوبهم تنبض، بحسب الآمال التي نقلها الفريق التشيلي، بعدما تعرّف كلب إلى وجود رائحة إنسان تحت مبنى منهار في الجميزة. كل ذلك يحدث، كما لو أن شيئاً لم يكن، وكما لو ان “القتل العادي” الذي مارسته السلطة بتفجيرها المرفأ عن سابق إهمال وتقصير، كان مجرد حادث لا يستدعي تعاملاً إستثنائياً معه. عمّت الإحتفالات الرسمية، برعاية فرنسية، العاصمة بيروت ورسمت طائرات فرنسية العلم اللبناني في سمائها، وكانت الكاميرات كلها تتجه إلى الحدث. إلى زيارة ماكرون للسيدة فيروز، مع احتفاء سعيد باللقاء الجلل الذي غطى على آثار الإنفجار، وطمر إعلامياً كل نبض لا يزال يوحي برغبة في المحاسبة أو المتابعة، تحت انقاض التسوية التي حملها الرئيس الفرنسي، خدمة لمصالح بلاده، مع ما تحمله الزيارة من إهانة لإستقلال وسيادة بلادنا.

شارك ماكرون، ومعه الطبقة السياسية قاطبة، ومعهم فيروز في طمر قضية تفجير المرفأ، وفي طمس آثار الجريمة، وفي كتم أي نفس يمكن ان يخرج من تحت الركام ليزعج التسوية ويزعج نوم الطبقة السياسية. لكن الكلب الشيلي عثر على رائحة لا تأنفها الطبقة السياسية. عثر على رائحة حياة تحت الأنقاض، وسمع الفريق التشيلي نبضاً، هناك، تحت الركام، في إشارة إلى وجود أمل في العثور على ناجين.
العثور على ناجين؟ التعبير بحد ذاته مثير للقهر. أي نجاة في بلاد ترزح كلها تحت خط القهر؟
في إحدى قصائده، يقول الشاعر مريد البرغوثي “أتلمَّس أحوالي منذ وُلدتُ إلى اليوم/ وفي يأسي أتذكر/ أن هناك حياةً بعد الموتِ/ هناك حياة بعد الموت/ ولا مشكلة لدي/ لكني اسأل: يا الله.. أهناك حياة قبل الموت؟”. ونحن، الناجون الذين عثروا علينا منذ ولدنا في هذه البلاد إلى اليوم، نتلمّس أحوالنا، وفي يأسنا ينبّهنا كلب إلى وجود نبض تحت الأنقاض. لكن، يا الله، أهناك نبض فوق الأنقاض؟!

“درج”: رامي الأمين – صحافي لبناني