4 آب: روي الشهيد الحيّ يقلب الموازين ويكذّب الأمنيّين!
لا يستطيع “روي” سماعنا بسهولة بعدما فقد سمعه بنسبة 90 في المئة في تفجير مرفأ بيروت. يستعين بسمّاعة أذن متطوّرة قدّمتها له إحدى الجمعيات الأهلية، تسهّل عليه المهمّة إن كانت “بطاريتها” في عزّ عطائها… لكنّ مشاهد كثيرة حفرها يوم 4 آب في ذاكرة “روي” لا تحتاج إلى السمع أصلاً. مشاهد تشكّك في معظم الروايات الأمنيّة المنتشرة، وهو قرر أن يرويها لـ”أساس”، من موقع “شاهد العيان”، الذي يبدو أنّه سيعيد خلط الأوراق من جديد.
“روي” هو عامل في منطقة “الونوشة”. كانت مهامّه عبارة عن تشغيل “الونش” لنقل البضاعة من البواخر إلى الشاحنات أو العكس. يتذكّر جيّداً أصوات النداءات العاجلة يوم 4 آب على الأجهزة، للتوجّه إلى العنبر رقم 9 حيث نشب حريق، في تمام الساعة الخامسة والنصف تقريباً، أي قبل وقوع الانفجار بـ37 دقيقة. وتزامن الحريق مع سماعه أصوات هدير طائرات حربية إسرائيلية سبقت الحريق بدقائق.
لا يتذكّر “روي” بالضبط متى، لكنّه يقدّر الوقت بين 5 إلى 10 دقائق قبل الحريق. وينفي إمكانية امتداد الحريق إلى العنبر رقم 12. وفي تدقيق بموقع العنبرين 9 و12 تبدو المسافة واضحة بينهما، وتدحض احتمالية امتداد الحريق من العنبر 9 إلى العنبر 12.
كذبة التلحيم
إن كان فعليّاً قد شبّ الحريق في العنبر رقم 9، فلماذا تمّ التسويق لرواية اندلاع الحريق في العنبر رقم 12 بحجّة التلحيم؟
يستغرب “روي” رواية التلحيم، ويسخر منها قائلاً: “أيّ تلحيم سيُسمح به على باب عنبر مصنّف على أنّه عنبر محروقات، ومن غير المسموح لأحد أن يشعل سيجارة بالقرب منه أو من العنبر رقم 9 لأنّهما مصنّفان عنابر محروقات”، لأنّهما يحتويان على مواد سريعة الاشتعال أو الانفجار.
لكن لماذا تعميم تصنيف العنبرين على أنّهما “محروقات”؟
نسأل “روي” وكذلك نسأله عن الروايات التي كانت متناقلة بين العاملين في المرفأ والتي كانت تحيط بهذا التصنيف.
فيجيب: “كنّا نسمع أنّ العنبر رقم 12 يعود لجهة أمنيّة أو حزبية معيّنة”. يرفض تسميتها ويكتفي بالقول: “فهمك كفاية”. ويتابع: “يضمّ العنبر عتاداً وأسلحة وذخيرة تعود لهذه الجهة، ويُمنع الدخول إليه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العنبر رقم 9، لكن من دون معرفة ماذا يضمّ”.
برأي “روي” أنّ صورة التلحيم اُلتُقطت لغايات مقصودة “لأنّ التلحيم غير وارد أبداً لباب العنبر رقم 12”. ويتابع بتفصيل الصورة: “ماكينة التلحيم تحتاج إلى شريط كهرباء لتعمل. وعادة عند الحاجة إلى الصيانة أو التلحيم في منطقة المرفأ تأتي آليّة وبرفقتها سيارة تحمل موتوراً كهربائياً لتزويدها بالكهرباء. وهذا ما لم نشهده يومها في المرفأ، ولم يظهر في الصورة، التي اُلتُقطت على بعد أكثر من 50 متراً. حتى إنّنا لم نلحظ في الصورة قارورة “الكاربين” التي نحتاج إليها أثناء التلحيم العادي عبر الشلمون”. ويكاد يجزم أنّه لم يحصل تلحيم في هذين العنبرين من قبل لخطورتهما، وعندما كان يحصل في عنابر أخرى، كان لا بدّ من مذكّرة من المشرف على الأرض، وهو موظّف في شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت. ويتمّ إرسال هذه المذكّرة إلى قسم الصيانة، ثمّ تأتي الموافقة مذيّلة بعدّة تواقيع قبل المباشرة بالتلحيم، فكيف إذا كان التلحيم في عنبر مصنّف عنبر محروقات، ومعروف بخطورة المواد التي يحتويها؟”.
أما عن “الطاقة” التي تحدّثت عنها التقارير الأمنيّة أو “الفتحة” في جدار العنبر رقم 12، فيقول “روي” إنّهم لم يلحظوا هذه “الطاقة” من قبل، ويؤكّد أنّ السرقة في المرفأ لم تكن تحتاج إلى فتحات، بل كانت تحدث عبر البوابات الرئيسية: “فعندما أريد أن أسرق شيئاً ما من خزانتك يمكنني أن أضع في خزانتك بعض الأشياء التي تخصّني، وعندها سأستطيع أن أفتح خزانتك وأسرق ما أشاء من دون لفت الأنظار”. ويصف الوضع بقوله: “كل حزب وكل جهاز أمني يعتمد نظام (مرّقلي تَمرّقلك)، علماً أنّ هناك كونتينرات تخرج في خط عسكري مباشرة من البواخر إلى خارج المرفأ ومن دون تفتيش”.
وعن محتويات العنبر رقم 12، يسخر “روي” في حديثه لـ”أساس” من “كذبة انفجار المفرقعات”، ويقول: “كلّنا كنّا نعلم أنّ هذه المفرقعات موجودة منذ زمن في العنبر وأنّها للتلف، بسبب الرطوبة. فمنذ أن كنّا صغاراً كنّا نعلم أنّه عندما تتعرّض المفرقعات للرطوبة لا تستطيع أن تشتعل، فكيف لها أن تحدث انفجاراً بقوّة صاعق يفجّر النيترات؟!”. ويرجّح هنا رواية الصاروخ الحراري الموجّه.
37 دقيقة بين الحياة والموت
بالعودة إلى الدقائق الـ37 التي فصلت بين الحريق في العنبر رقم 9 والانفجار في العنبر رقم 12، يكمل “روي”: “بينما كنّا نكمل عملنا، كانت الأعمال مستمرّة لإطفاء الحريق في العنبر رقم 9، وكانت أصوات الطائرات لا تزال تُسمَع في الأجواء. وقع أوّل انفجار، وتوقّع الجميع أنّ القصة انتهت هنا، وأنّ المرفأ تعرّض للقصف، لكن ما هي إلا ثوانٍ قبل حتّى وقعت الكارثة”.
يميّز “روي” هنا بين صوت الطائرات: “الذي لا يمكن الخلط بينه وبين أصوات أخرى أو الاشتباه فيه على أنّه صوت آخر”، وبين صوت عصف الانفجار، قبل أن يفقد سمعه بنسبة 90 في المئة: “كاذب كلّ من يقول إنّه استطاع أن يتحرّك عندما انضغط الأوكسجين وأدّى إلى موجة العصف. عندها توقّف العالم لثوانٍ، وتجمّدنا جميعاً، وأصبحنا في وضعيّة الـpause، ولم نستطع التحرّك، ثمّ اجتاحت المكان عاصفة رملية عصفت في الأجواء، حتّى إنّنا لم نتمكّن من سماع صوت الانفجار الثاني لقوّته، وفقدت الوعي لفترة”. ويشير هنا إلى أنّ قوة الدفع تسبّبت بالأذى للناس قبل حدوث الصوت الذي سمعه الناس خارج المرفأ.
عندما استفاق “روي” رأى الجحيم في الخارج، إذ كانت “الشظايا تنزل وتتخبّط على الأرض والكونتينرات والشاحنات، والمرفأ مدمّر، والناس أشلاء وضحايا، ولا أتذكّر كيف تمّ نقلي إلى المنزل. أعتقد أنّني غبت عن الوعي مرّة ثانية في تلك اللحظات”… ثمّ بدأت رحلة البحث عن عائلته المؤلّفة من زوجته وابنته وثلاثة أولاد في منزلهم الواقع في الكرنتينا، وتبيّن لاحقاً أنّها بأمان في “الجبل”.
خسر “روي” 10 شبّان من زملائه العاملين في القسم نفسه، بينهم سائقو شاحنات، وسائقو ونش، ومشرفون في المرفأ، وسائقو “empty”، أي الذين يقومون بتحميل الكونتينرات الفارغة. وإضافة إلى سمعه الذي فقده، يعيش “روي” حتّى الآن صدمة الانفجار: “كنتُ أستيقظ مرّتين وثلاثاً وأتخيّل أنّ الانفجار يقع من جديد. حتّى خلال يقظتي كنت أتخيّل أنّ الانفجار يحدث، فأركض أبحث عن أولادي. ربّما تقلّص عدد المرّات التي أتخيّل فيها ذلك، لكنّني لا أزال أعيش هذه الحالة حتى اليوم”.
أمّا عن حركة المرفأ، ما قبل الانفجار وما بعده، يقول “روي”: “كنّا أسبوعياً، وأحياناً يومياً، نفرّغ 5000 كونتينر ترانزيت، يتمّ إنزالها من البواخر في مرفأ بيروت مقابل الرصيف، ويُعاد تحميلها مباشرة في بواخر أخرى، معظمها تقصد دولاً خليجية: “كنّا نتشاجر من أجل أن يتمّ فرزنا إلى الترانزيت، إذ كنّا نحصل على 850 ألف ليرة عن كل كونتينر، وكان اعتمادنا في العيش عليها، لأنّنا نتقاضى نحن العاملين في المرفأ الحدّ الأدنى للأجور، أي 675 ألف ليرة”. ويسأل “روي”: “ليقولوا لنا اليوم كم كونتينر ترانزيت ينزل شهرياً في المرفأ؟”. وبرأيه أنّها صحيحة النظرية القائلة إنّ تدمير المرفأ كان مقصوداً وليس صدفة، وذلك لإعمار مرافئ أخرى.
هذه هي قصّة “روي” الذي كُثُر مثله حاولنا التواصل معهم، فرفضوا التحدّث عن الحقائق نفسها التي تحدّث عنها “روي”. لكنّه أكّد أنّ كثيرين من زملائه لديهم الرواية نفسها، وأنّ الخوف من التعرّض للخطر الأمني والخوف على لقمة العيش المغمّسة بالنيترات حالا بينهم وبين النطق بمشاهداتهم، لأنّ معظمهم لا يزال يعمل في المرفأ.
الملاحظ في هذا الحوار أنّنا لم نذكر الاسم الكامل للمتحدّث، الذي خضع للتحقيق لدى فرع المعلومات، ومعه مجموعة من السائقين في المرفأ وشهود عيان كانوا في موقع الانفجار في تاريخ 4 آب 2020، وتحدّثوا عن مقتطفات سريعة من مشاهداتهم على محطات التلفزة. ولذلك اكتفينا بذكر لقب المتحدّث لعدم التسبّب له بأيّ أذى أو إحراج، وذلك بطلب منه، علماً أنّ مختلف التفاصيل المذكورة في هذا التقرير موثّقة لدينا.
فهل ستغيّر هذه المشاهدات مسار التحقيق أم سيتمّ التكتّم عليها لأسباب معروفة؟
نهلا ناصر الدين – اساس ميديا